Sunday, May 20, 2012

يوميّات الحمّام الزهريّ


أخذتُ فرشاة الحلاقة ورحتُ أرطّب الشعيرات النابتة على ضفاف وجهه بالرغوة، وأرطّب معها جفاف قلبي حين يرى عجزه عن القيام بالأمر بنفسه. شرعتُ بالحلاقة وبترطيب جراحات غيابه المتنامي في يوميّات حضوره المتواري عن نفسه... لستُ أدري بشأن شعيرات روحه؛ ما إذا كانت حاضرة تتفاعل وتشعر، ربّما، إلّا أنها مبتورةُ الأصابع، لا تستطيع تلمّس مسار جسده الواهن تحت ثقل مرضه الذي سرقه من نفسه ومنّا، كما لا تستطيع تتبُّع مسار شبابنا الذي ينضج بالشيخوخة قبل أن يتسنّى له رسم فضاء أحلامه الزهريّة.

إنه والدي. إنه مصدر الحياة التي فاضت منه وأتَت بي إلى الحياة، لترسم ملامح وجهي، تفاصيل جسدي، بيانات فكري ودائرة روحي. بعد ممانعةٍ استمرّت لوقت، ومجادلاتٍ تتكرّر في كلّ مرّةٍ أطلب منه أن يجلس على كرسيّه الخاص فوق بلاط الحمّام الزهريّ اللون لأقوم أنا بحلاقة ذقنه، وافق من غير رضىً. هذا الحمّام الزاهر اليوم بكلّ شيء إلّا من الأحلام والآمال التي اغتالتها بشاعة المرض، بعد أن أزهر بالأمس على وقع لمساته، يوم اصطحب والدتي لتنتقي تصميم حمّامهما، فعاد معها إلى المنزل حاملاً عيّنةً من البلاط الذي اختاره مع شريكة حياته، وبعد موافقتنا أنا وإخوتي، لبس حمّام الجناح الغربيّ من منزلنا سقفاً وجدراناً وأرضاً زهريّة زخرت بالفرح في كنف العائلة، وامتلأت بالحبّ أزهر زهواً وراح يخترع تدرّجات جديدة من زهر الدفء والتوافق والتناغم. جلس راضخاً، شاكراً يداي اللتين تمتزجان بالشفرة الحديديّة الباردة وماء الحنفيّة الساخنة. بين برودة الحديد ودفء الماء، تنصلب أصابع كفّي التي تمرّ فوق انحناءات وجنتيه وعنقه، راسمةً دائرة لحية ذقنه، التي شكّلت هويّة صورته منذ فتحت عينيّ على وجوده في حياتي. إنّه أبي الذي قلب المرض دور أبوّته في حياتنا إلى دور الطفل الملاك، الذي لا تكبر فيه إلّا مساحات العجز وتفاصيل المواجهات اليوميّة للتأقلم مع تدهور جسده، الذي لم يعرف كيف يكون وفياً لصاحبه، فخان الحبّ والحياة اللتين كانتا جوهر أعماق أبي، وحقيقة وجوده التي نقلها إلينا ممارسةً وجوديّة تفتخر بها الحياة.

أنهيتُ المهمّة. أقفلت الحنفيّة الزهريّة. ناولته المنشفة المخطّطة بالزهور، ليجفّف وجهه بعد أن غسله بالماء الفاتر، بخلاف زهرةِ أملٍ وحيدة، فاترة، ترفض أن يذبل إيمانها بأنّ الحياة في عينيه لن تفتر أكثر من ذلك، لن توجعني أبعد من ذلك، ولن تكسر ظهري الهزيل بمواجهة غيابه عن نفسه وعنّا.

أقفلتُ باب الحمّام الزهريّ وفتحتُ زهر الصّبر لموتٍ يغتالني في كلّ مرّة أراه يحاول فيها الوقوف على رجليه، حيث تأخذه عملية الوقوف في مواجهةٍ مؤلمة لكلينا في تحدّي الجسد القانع في تكلّس المفاصل التي خسرت حركة مفاصلها ومعاونة فكره، الذي تشتّت على طاولة العمليات في المستشفى وتركتهُ في حالةٍ لا هي زهر الحياة ولا زهر الموت....

1 comment:

Nazih Dandan said...

لم أجد في الكتابة العربية أروع من كتاباتك و أصدق من مشاعرك. كل يوم بمر و يزداد اعجابي بكل ما تكتبي و تلفظي. يا ريتني قلمك لأبقى ملتصقا بأناملك و أقرأ كل يوم كل ما تكتبين.