Tuesday, February 21, 2023

التراب إن حكى


كل التربة التي بداخلي تكبر، تتمدّد وتجتاح خلاياي الواحدة تلو الأخرى. ستتنامى هذه التربة غداً أو بعد غد فوق بشرتي، مستخدمةً كل عناصر نضارتي لتُنبتني في عمق هذه الأرض. 

هي نفسها التربة التي نستميت لنسكن داخل جدرانها، مطلقين عليها اسم منازل على شاكلة أسمائنا، نفني أيام حياتنا متحوّلين إلى ماكينات إصدار عملة نقدية، نستميت للحصول عليها، لنوسّع بها غرف بيوتنا، نزيّنها حسب أذواقنا، لا نبخل بأيّ مبلغ نجنيه أو ساعات إضافية نسهرها أو تعب مرهق نعمل خارج ساعات دوامنا، ليكون لدينا تراباً منتصباً في الأفق عدّة طوابق أو حتى ناطحات سحاب، مطلقين عليه شعار بيت العائلة الجامعة، ننزل فيه كل حياتنا، فندقاً للأحلام الوهمية. وكم نبالغ في افتخارنا بأننا اقتنيتا بيتاً، غير متنبهين بأن تراب البيت هو وحده يقتنينا، ونحن ملكيته وليس مملوكاً منا بحسب صكوك العقارات. 

هي التربة تُمعن في اختلاق السراب الذي يغطي عيوننا، وبينما يمرّ العمر ونحن منشغلون بتغيير الديكورات والأثاث، متنقلين من كنبةٍ حمراء بحسب ذوقنا، إلى أخرى من طراز آخر، إلى صالون آخر ولوحة زيتيّة أخرى، نزيّن بها حيطان التربة المطليّة بشتى الألوان التي تُنسينا بأنه تراب؛ بينما تكون هي قد خطّطت رحلة عيوننا الأبدية داخل مثواها، بالشكل الذي رسمته تلك التربة. ونروح نتنقّل من سرير حضننا سنوات إلى سرير جديد لا يصدر صريراً ولا يغرق بنا حين نتمدّد فوقه، هاربين من فكرة الغرق في التراب، بينما هذا التراب نفسه يهيّء لنا أسرّةً مماثلة للجميع، دون تفرقة بين أجناسنا وأعمارنا ورائحة عطورنا أو رغباتنا؛ فللتراب خطة بتلوين الأرض بشكل مغاير. التراب لا يحب العلب التي نبنيها وتعلّب أيامنا وليالينا وأفكارنا فتُشيّئُنا يوماً بعد يوم لنصبح روبوتات إنسانية متناسخة جميعها تفكّر بشكل واحد، بينما التراب يحب الأصالة والتميّز. 

ستنتصر هذه التربة بعد حين، بأن تحوّلني إلى طبيعتها، وربما أنمو وردة، أو عشب أخضر، أو ربما شجرة سيكويا عالية. أنا أحب السيكويا وأحب أيضاً الأرز. لكنه بطيء جداً في رحلة تجذره في عمق الأرض وفي مسيرة تصاعده على حبال السماء قليلاً قليلا. أجل لم لا! يقولون إننا حين نتوحد بالتراب، فوحدتنا أبدية. إذاً، لديّ الأبدية لأصبح أرزة جبارة أشهد مرور الأحياء بجواري وأختار ربما أحد هؤلاء المارة وأهمس له أغنية هذه الأرض، أبوح له بسري وأزرع فيه رغبة اختيار الأرز ليصبح صديقي الأبدي. رائع هو اختبار الحياة بكل مظاهرها ومن كل أنواع الحيوات. 

ربما كنت شيئاً آخر قبل أن أنسكب في جسدي الأنثوي الذي أحب وأحترم الحياة التي تنبض في كل أعضائه، حتى تلك البشعة أو المريضة أنا أعشقها مثلما أعشق ما بي جميل وحسن. ولو قُدّر لي الإختيار، ربما كنت لأتمنى اليوم لو كنت طيراً لا يملك رغبة الطين المنزلي ويعي دورة التراب في شرايين البشر، فاختار الإبتعاد عن الحجر والضجر، متكئاً على السماء وعلى جناحيه.
ربيعة طوق