Tuesday, November 5, 2019

أتطنّون الجوع في البطون فقط؟




أقفلناها الشوارع لأنكم قلتم علانيةً: أغفلناها صرختكم! سنقفلها بعدُ أكثر لأنكم لا تزالون تسمّونها حراك! حرّك الله أفئدتكم المتحجّرة! سنبقى في الشارع.

في الشارع سنبقى وما الفرق، فبيوتنا بوجودكم باتت كالشوارع، لا طعام في مطابخها، لا كتب على رفوفها، لا دفىء في أسرّتها، لا عائلةً مجتمعةً تحت سقوفها ولا لون لأيامها!

أقفلتُم طرقات الأسفلت وفتحتم طرقات النفايات تملأ أنفاسنا سمّاً! لماذا إذاً استفزّكم منظر الطرقات المقفلة بشعبٍ يطالب باسترجاع كرامة أحلامه الإنسانية الأدنى!!؟ هذه الطرقات نفسها هي التي تقفلونها كلّ صباح عند مرور مواكبهم؛ فهل باتت الطرقات العامة من ضمن ملكيّاتكم الخاصة؟ نحن على علم بالمشاعات الحكومية التي سجّلتموها بأسمائكم على أنها أملاك خاصة. معكم حقّ! فنحن من أورثناكم عهوداً من الحكم على رقابنا، فاستملكتمونا حجراً وبشرا! فاتَكُم أننا بشر، لكن لم يَفُتْكُمْ أن تمسحونا بأسمائكم "جماعة فلان وحاشيته"، وقسّمتمونا مللاً وطوئف وأحزاب مفرغة من محتواها الإنسانيّ.

بيوتنا باتت شوارع لأنها لم تعد تندرج تحت خانة البيوت منذ باتت الضرائب تتراكم على ساكنيها الذين يدفعون فاتورتين اثنتين للكهرباء العليلة التي لم تعد تُنير سوى ذلّنا الذي فاتكم أن تضعوا له العدّادات! لكن لم يفُتكم افتراس كرامة جيوبنا!

طعامنا مُسرطن بمنظومته الكاملة، فأجهزة رقابتكم تماماً كضمائركم: مستورة مكفوفة عليلة كاذبة ومُرتشية! أنفضح صفقات القمح واللحوم والمعلّبات الفاسدة، أم الريّ بمياه المجارير، أم السموم التي يرشّها المزارع البسيط الذي بغياب وزارة الزراعة ومعايير السلامة التي يجب أن تطبّقها، ربّما بعفوّيته يظنّ أنّ تلك السموم ذات فائدة ويغفل عن أنّه يُطعم أبناءه منتوجات صفقات سمومكم التي غفل الجسم الصحافيّ عن فضحها! فاتكُم أنّكم بشر، لكن لم يفتكُم افتراس كرامة لقمتنا!

كُتُبُ أولادنا المدرسية بمئة لونٍ لا ثقافة وطنيّة بين صفحاتها! مضمونها الوحيد أوراق نقدية يرزح الأهل لثقل حملها ويَستحيل تصنيفها. فلو جمعناها، لفاق عدد أوراق الصفحات في حقائبهم المثقلة بالحشو. ناهيك عن كتب تاريخنا المُشَرذمة بتشرذُم أبناء هذا الوطن: فالبطل الممجّد عند فئة من اللبنانيين، هو عميلٌ مجرم عند الفئة الأخرى! أمّا عن الرفاهية الفكرية، فلم يعد لدينا من وقتٍ للاستمتاع بها، لأننا شعبٌ محكومٌ عليه التمسمُر على شاشات التلفزة لقراءة المستجدّات اليومية في هذا البلد المستجدّ. نحن يُتماء الثقافة خصوصاً وأننا نحن الفقراء، لم يعد لدينا فسحة لشراء كتاب، فلم يعد لدينا موارد حتى لتسديد لائحة الفواتير المعيشيّة الضرورية! فاتكم أن تكونوا مواطنين، لكن لم يفتكُم افتراس كرامة هويّتنا الوطنيّة!

ليلُ أسرّتنا طويلٌ وبارد بعد نهارات العمل الطويل التي لم تعد مهاراتنا فيه متوازية مع مقدّراتنا. نرمي بأجسادنا بين الأغطية مستسلمين للأحلام علّها تُعطينا "تشريجةً" ولو قليلة، تكفينا أعباء اليوم التالي، التي حملناها قبل أن تشرق الشمس. ليلُنا مُفرغٌ من الدافىء من المعاني: فحتى الحب يضمحلّ ويتقوقع أمام الإستحقاقات الماديّة التي نشعر أمامها بالعجز والصِّغَر. أرأيتم يوماً تقاسيم وجه أمٍ أو أبٍ حين يطلب طفلهما أمراً لا طائل لهما عليه؟؟ أسمعتم كيف يتكسّر قلبهما كسَراً أكثر هشاشة من تحطّم الزجاج؟ بالطبع لا، فأنتم يا أقزام السياسة، لكم اقتدار غول ماديّ، فما تتنعّمون به قد نهبتموه من حضراتنا، فخامة الشعب اللبناني بأكمله! لم يفُتكم افتراس سنوات عمرنا!

أما عن العائلة، فقد بتنا عائلات كرتونيّة! أمهاتنا تقبّلن الصور ليلاً نهاراً فقط. أمهاتنا ربّت أولادهنَّ وصدّرتهنَّ إلى الغربة! الأم اللبنانية أمّ يتيمة في أمومتها! غريبٌ كيف لم يتناهى إلى بال السياسيين أن يضعوا رسماً مالياً على هجرة إخوتنا، كلٌّ بحسب بُعد البلاد التي هاجر إليها هرباً من نير العوز والجوع!! الجوع الماديّ والفكريّ والثقافيّ والإجتماعيّ. تظنون الجوع في البطون فقط؟ لا يا أشباه الرجال، لا يا مصّاصي الأرواح. الجوع الأشقى هو الكرامة الإنسانية. ما الفرق بينكم وبين محارق أوشفيتس؟ خيرة الشباب والصبايا مجبورة أن تصدّر أعمارها وقوداً حيّاً خارج البلاد، فلا يبقى في الوطن سوى مَن اغتصبتم كرامتهم الإنسانية ورفعتم حرارة أفران حرمانهم من أبسط الحقوق المدنيّة، والإنتقاص من حقوقهم في كرامة التعليم والإستشفاء والمواصلات. حتى الأدوية مزوّرة في لبنان! هل أسوأ من هذا الجور جوراً؟؟؟؟

فاتكم أنّ لدينا حياةً واحدة، لكن لم يفتكم أن تفتكوا بها.
نحن شعبٌ جائعٌ لوطن.
نحن شعبٌ جائع لحياة.
نحن شعبٌ جائع لكرامته الإنسانية المسلوبة.