Tuesday, October 29, 2019

الوطن الرهينة والجيل المسروق

أنا مواطنة لبنانية وابنة البلد. لا أطلب الكثير وليست لدي أحلام كبيرة! فأنا من الجيل المسروق. أنا من أولئك الذين لا يدرون ماذا يضعون على لائحة أحلامهم! فقد أتينا إلى العالم بينما عيون أهالينا مسمّرة إلى شاشات التلفزة، تلاحق لحم إخوتي المتطاير أشلاءً تلوّن السماء باللون الأحمر! أنا من جيل الألغام والتفجيرات كطبقٍ متوقّع على لائحة البؤس اليوميّ. لم أعرف في حياتي سوى لونيّ الأحمر والأسود. أحمر العَلَم، أحمر الدماء، أحمر العيون الباكية، أحمر الوجنات التي تلطم فقدان أبٍ وابنٍ وأخٍ وجارٍ وابن عمّ وصديق وطفلةٍ ولدت للتوّ سليمةً وطاهرةً وجميلةً لكنها قُتلت في طريقها إلى البيت مع الوالدين قبل أن يستقبلها الجدّ والجدّة، بالورود والشوكولا. وتروح الورود تحترق جفافاً في يد الجدّة الملتاعة التي تحمل نفسها على الوقوف فقط لتكذّب ما حصل. لتكذّب بشاعة القذيفة وحقيقتها وحقيقة موت ابنها وكنّتها وحفيدتها التي لم ترى لون عينيها ولا زهر يديها. أنا من هذا الجيل الذي تشرّب روح الكبار ونظرتهم للشوكولا على أنه لعنة، فهو يفضح فرح الإحتفال في وطنٍ لم يكن هناك من مساحة لفرح الإحتفال من أيّ نوع. فهناك وبشكل أسبوعيّ على الأقلّ، نعشٌ في الحيّ، والبناية، ولائحة انتظار طويلة في صالونات الكنائس. كان الأسود هو اللون الموحّد كما لو أنه كان لزاماً على نساء بلادي أن يلبسن الأسود كعُرفٍ وطنيّ. كنت أظنّ بأنه نوع من العادات الإجتماعية البديهيّة. أن تبدّل الفتاة ثياب لعب البيت بيوت إلى اللون الأسود في مجتمعنا، حالما يتكوّز نهداها وتبقى في ثقب الأحزان الأسود هذا، إلى تذهب بدورها إلى مثواها الأخير.

لقد كان الموت هو الحاضر الأكبر لدرجة أن الأعراس كانت تتمّ كلها على شكل "خطيفة" ، وكانت أيضاً على وزن خطيئة! فمن الخطيئة أن تتنعّم بطعم الحب بينما ابن عمّك أو صديقك لا زال ساخناً في نعشه. أجل! ومجتمعنا صغير والجميع يعرف الجميع والألفة ووحدة المصير تقرّب الناس وتجمعها أكثر فأكثر. كان الوجع أكبر من أن يتمّ تقاسمه بين أفراد العائلة الواحدة، فأي مأتمٍ في القرية أو المدينة هو مأتم كلّ القرية وكلّ المدينة، والجميع أهل الصبي. والدمع قليلٌ على فلذات الأكباد....

أنا من الجيل المسروق الذي لم تسنح له الأيام باختبار الحياة لا كأطفال ولا كمراهقين. وكبرنا دون أن نعلم كيف يكبر المرء والطفل بداخله لم يعش تجربة اللعب. لقد كبر من كثرة الأوجاع والهموم، وروّعته شهقات البكاء والعويل، وأصوات النحيب، وجوقات النوبة والندّابين. يا إلهي كم تسكنني تلك المشاهد وكم يؤرقني أن يكون البعض قد خانته ذاكرته ومحى اليوم ما عايشناه من حرب كانت محورية ووجودية ومروّعة بكل ما للمفهوم من معنى! نحن شعبٌ صغيرٌ درّبونا كما يدرّبوا الكلاب لتقتل بعضها في حلبة الصراع. حقنونا سمّاً ووضعونا في ساحات الوطن نقتل بعضنا. الأخ ضدّ أخاه. ابن العم وابن الخال يقتتلان خلف المتاريس. يا إلهي كم كان عدد المتاريس كبيراً، ومَن يتلطّون وراءها كانوا أطفالاً صغارا، أوهموهم بأن الرجولة تبدأ الآن وعليك باصطياد أكبر عددٍ ممكن من هؤلاء الآخرين. كان أولئك الآخرون أحبّة وأصدقاء وأبناء وطن صغير واحد. لكنّ الوطن الصغير الواحد بات له عدّة زعماءٍ، أعدّوا الكثير من الذخائر وأعلنوا ساعة الصفر وأطلقوا عليها تسمية القضيّة. أجل. عليك أن تقتل الآخر في المتراس المقابل لك. أقتله لأجل القضية. المشهد نفسه تكرّر في كلّ الضواحي والربوع اللبنانية. وغاب عن بال الزعيم أنّ ابن الضاحية الأخرى، هو أيضاً من نبضٍ ومن لحمٍ ومن دمٍ! وله أمّ وأب نذرا السماء كي يولد لهما ابناً. وبلحظة، أتت القذيفة وعمّدته بالدماء.

وحين كان آباؤنا في المتاريس، كنّا وأمهاتنا تحت رحمة متاريس الدرس على ضوء لوكس الكاز في المطبخ، ولوكس الغاز في الصالون. كانت الكهرباء شبحاً نسمع به، وكانت الساعات تتراكض مسرعةً كي ننهي ما علينا لأنّ لوكسيّ الكاز والغاز يمدّانك بوقت محدّد من الإنارة، قبل أن تذبل شبكة النار فيه وتتهاوى كأمطار بركانٍ تعب من ثَوَرانه. ونثور على من كان دوره فينا اليوم لتبديل شبكة النار فيه، والويل لمن نسي أن يشتري مخزوناً كافياً! وكان هناك سوق سوداء لهذه الشبكات الصغيرة التي تنيرعتم بيوتنا بغياب الكهرباء، طويلاً قبل أن تشرق لعنة مولدات الكهرباء. كنّا جميعاً "ننشوي" في مظاهر الحرب التي رافقتنا حتى كبرنا. وحين كبرنا انتبهنا بأننا لا نعرف هذا الوطن الصغير إلا من خلال المتراس الذي عشنا بداخله.
(يتبع)