Monday, March 23, 2020

عاش الملك كورونا

كلّ تيجان العالم سقطت ليُعلنَ فيروسٌ غير مرئيّ حُكمه على سكان الأرض أجمعين! 

عروشٌ على مرّ العصور لم تستطع تثبيت تاجها، ليأتي الفيروس التاجيّ غير المنظور، فيَسود على الشعوب ويوّحد العالم تحت راية الإنعزال الإنهزمائي، الذي فاق بشراسته حروب العالم أجمع، خصوصاً وأنه أتى في زمنٍ ظنّ الإنسان أنه، بما اكتشفه حتى الآن، ملك الزمان والمكان، ليتضّح بأنه لا يملك أدنى فكرة عن كائنٍ مجهريّ يهدّد حاضره ومستقبل الأجيال الآتية، بدءاً من اليوم، حتى انتهاء الأزمنة!

تظنون أننا بمواجهة الكورونا؟ لا! إنها الكورونا بمواجهة عدوى اللاإنسانية ووباء اللامبالاة! كورونا الصرخة الأصدق لوباء الإنسانية الذي لم يعد يشبه الإنسان في شيء! كورونا شهقة أمنا الأرض التي قتلناها في اللحظة التالية بعد أن أنجبتنا! قتلناها بتلاعبنا بجينات المحاصيل الزراعية المجانية التي منحتنا إياها لنتنعّم بخيراتها التي لا تعدّ ولا تُحصى! اغتلناها باغتيالات أبنائها من الحيوانات من كل نوع، فلم نوفّر حيوانًا إلا وعدّلنا في نمط عيشه، وقطّعناه إرباً ونكّهناه بكلّ أنواع المطيّبات ولم نشبع! رحنا نتلهّى بقتله في كلّ أنواع الرياضة والترفيه، وبكلّ فنون الوحشيّة الممكنة وغير الممكنة! ضجيج الأفكار النابضة بكل أنواع الصراخ المتثائب هذا الذي نشهده في أيامنا هذه، أيام الأوبئة الإنسانية المستشرية من كلّ نوع: الكذب، البغض، الفرديّة،الثرثرة، الكسل، الطمع، السرقة، الأنانيّة وكلّ باقي أمراض "الأنا".

كائنٌ مجهريٌّ صغير، يعيد ترتيب نظام الكون! يُسائل عن كلّ ما كنا نعتبره عادياً في كلّ لحظة. يُعيد تشكيل القوانين والأعراف المعيشيّة التي كانت تافهة وبسيطة بالنسبة للغالبية، ليضعها بمرتبة الأولويات العظيمة الشأن! ليس هناك أفظع من أن يموت الإنسان وحيداً على سرير مستشفى مكتظٍ بالموتى. يشتغل الإنسان كلّ حياته ليعزّز موته بطريقة احتفالية يكون في ختامها محاطاً بالعائلة، بالأصدقاء، برفاق العمر وبزملاء العمل، ليأتي الكورونا ويعبث بالموروث من الترتيبات والحقائق والعلوم وكلّ الموثوقات!

الحاكم بأمر التاج، أطلق حكمه كما لم يستطع قائد أو مسؤول أو جمعيّة إنسانيّة تحقيقه، فأوقف المدافع والقذائف والرشاشات ورائحة الأجساد الممزّقة بالبارود والحروب! سكتت لغة السلاح لتتحوّل جيوش العالم كلّها من آلات قتل ودمار، إلى عناصر مؤازرة للسلطات الطبية! لا أخبار سوى الكورونا بمواجهة البشرية! لا جبهات اليوم ولا متاريس، لا قتل ولا اقتتال. شكراً كورونا لأنك أعدتَ لنا قيمة الحياة ومعنى الحماية الحقيقيّة.

لم يحتج الفيروس سوى لأيام قليلة فقط ليحقّق، ما لم يستطع قضاة العالم ومشرّعوه أجمعين على فعله! لقد فرض فيروسنا الحبيب عدلاً استثنائياً شاملاً للكون، وأرسى المساواة الاجتماعية التي كان من المستحيل تخيّل حدوثها بالرغم من كلّ الجهود القائمة منذ القدم لتحقيق هذا!

في عهد الكورونا أصبح الجميع أسياداً أغنياء، يملكون السلعة الأغلى ثمناً في العالم، ألا وهي الوقت! الوقت المجانيّ مع العائلة! حلمٌ ما ظنَّ رجل أعمال، لو مهما علا شأنه أو حجم ثروته، أنه بإمكانه الحصول عليه بهذه الوفرة! وعادت القداسة لحضن العائلة التي اجتمعت بقوة الكورونا تحت سقفٍ واحد وعادت لها الأولويّة. يتعرّف الآباء على أطفالهم، على شريكات حياتهم وعلى دورهم الأبويّ بعيداً عن المال وأدوار الحضانة والحصانات المادية. دخلت العائلات حضن البيوت فزال التلوّث وصفا أزرق السماء! أوقفت دوّامات العمل ودوامات الرئيس والمرؤوس لتبدأ الحسومات الضريبية، الإعفاءات، الإئتمانات بدون فائدة، صناديق للاستثمار ، انخفاض أسعار المواد الخام، تعزيز مفاعيل الحماية الإجتماعية، الإستطباب المجانيّ، الرعاية الحكومية القصوى.... سادت حالةٌ كونيّة من إدراك حدود الذكاء البشري في مواجهة قوة غير مرئية وحّدت أبناء الأرض! وأدرك الإبن الضالّ معنى العدالة والرحمة ومشاركة نفس المصير!

سمح الفيروس لبني البشر بحصول بعض التجاوزات كسرقة المواد الغذائية واحتكار المواد الطبيّة، ليجعلنا نفهم الدرس الأصعب الذي لم ندركه قبل اليوم، بالرغم من كلّ الإنتماءات الدينيّة والعرقيّة، ألا وهي أن المال إن كثر أو قلّ، لن يُنقذ حياة أحد، وبأننا جميعاً نفوساً هالكة بمواجهة تاجٍ غير مرئيّ، يُطلق أحكامه حسب شروط انتقائه التي لا نعرفها، وربما لن نفهمها أبداً!

 استغرق الأمر بضعة أيام فقط ليصبح اليقين غير مؤكد، لكي تصبح القوة ضعفاً، ويصبح الضعف تضامنًا وعملاً واحداً سيّده الخوف  بمواجهة الملك التاجيّ.

اليوم الكلام للكورونا، سيّد المنابر يقول: تحسبون الدقائق بينما أنتم داخل أمان منازلكم لأنكم ما تركتم مكاناً آمناً لسكان الأرض من بشر ومن شجر ومن حجر!
إنها الساعات وسلسال الإنتظار المنتاهي الخوف والمتنامي الإطباق، يجلد المرهقين على طول هذا الحبل، ثمّ يعلّق المشانق على مشارف اللاأدرية!

لننتظر بصمت ونرى، علّنا نفهم ونعي بأننا جميعنا واحد في قارب هذه الرحلة على كوكب الأرض. شكراً أيها الملك كورونا! نسألك الرحمة والحنان على سكّان الأرض أجمعين، الذين أقالوا إلههم وأقاموا آلهة اصطنّاعيين على شاكلة ضعفاتهم، فأقفلوا باب الرحمة الإلهية وأوصدوه الغياب! فمرّ علينا ملكاً رحوماً، علّنا نفهم الدرس ونستخلص العبرة.... من يدري كم سيطول هذا النهار في سلسال الصلوات والتضرّعات! 
ربيعة طوق