Sunday, May 13, 2012

هل هذه فعلاً صورة الهويّة الثقافيّة العربيّة التي سوّقت لها قناة "العربية"؟


لفت نظري الإعلان التسويقي لمحطة "العربية" الذي يصوّر بيتاً ينتمي إلى الطبقة الميسورة مادياً، حيث نرى يد ساعي البريد التي تُلقي بالصحيفة اليومية داخل سور هذا المنزل العالي، ثم نرى الشاب صاحب المنزل يخرج بينما يخطو بين هذه اللفائف والرّزم المكدّسة منذ عشرات الأيام. وبينما يخطو الشاب ليخرج من منزله، نرى الجرّافة تجرف تلك الصحائف المهملة وكأنها تلّة من النفايات بهدف التخلّص منها. ويكمل الشاب طريقه، حيث يصعد إلى سيارته، يدير محرّكها لينطلق بأقصى سرعة، وبينما هو يقود على الطريق، يصادف وجود رجل جالس على العشب يقرأ في صحيفته في هناء الطبيعة والعشب الإخضر النضر، إلى أن يمرّ بجانبه الشاب الذي، لتسرّعه، لا يخفّف سرعة السيارة مارّاً فوق بقعة كبيرة للمياه المتجمّعة، وعلى الأرجح آسنة، فيتطاير جرّاء عجلات السيارة المسرعة الماء المتسخ، منهمراً فوق القاريء السعيد، وتنتقل بنا الكاميرا مباشرةً بعد هذا المشهد، إلى مضيفيّ البرنامج الصباحيّ اليوميّ، الذي تسّوق له قناة "العربية" من خلال هذا الإعلان.

أعلم جيداً أن الرسالة التي أرادت قناة العربية بثّها من خلال هذا الإعلان، والمكانة الرمزية للشاب الذي يدوس بجهل خطواته على الصحف، والذي أراد الإعلان من عرضه، إعلام الشباب العربي الذي يريد أن يكون على بيّنة ممّا يجري من أحداث في العالم، أنّ بإمكانه من خلال قناة "العربية" أن يكون على اتصال وتواصل مع العالم أجمع، دون أن يضطّر إلى اقتطاع وقت خاصّ لهذا الأمر على حساب عمله ووظيفته. والسيارة الرياضيّة السوداء السريعة التي أراد الإعلان من خلال رمزيّة سرعتها القول؛ بأن قناة "العربية" هي السبّاقة في إيصال أخبار الوطن العربي للمواطن العربي والعالم أجمع، وهي الوسيلة الأقرب والأسرع إلى المشاهد، بحيث تختصر له المسافة الزمنية التي يحتاجها لقراءة محتوى الصحف اليوميّة.

إن ما عكسه فعلاً هذا الإعلان، هو واقع الإنحطاط والقحط الذي يمرّ به الوطن العربي ويفتك بأبنائه، حيث بدل أن يكون الموروث الثقافي التقليدي (أي الصحف) اليومية - والتي شكّلت الهويّة العربية التي عكست طويلاً وجه الثقافة العربيّة الخلّاقة - مدخلاً لثقافة تتطوّر مع تطوّر الوسائل الإعلامية والإعلانية. وبدل أن تكون التكنولوجيا التي تستخدمها محطات التلفزة والقنوات العربية لنشر الثقافة العربية، محطّةً للإبداع الإنساني من خلال الوسائل الثورويّة التي جاءت بها العولمة والتطوّر التكنولوجي في نشره، قد أفرجت بدلاً من ذلك، عن صورة أبشع من تُشاهد، وأفظع من أن تخبر عن واقعنا العربيّ الذي يتبنّى ما يلفظه الإعلان الغربيّ في مكبّات نفاياته التي هي "نحن"، والتي هي وليدة تجاربهم الخاصة التي لا تشبه بالضرورة تجربتنا نحن كقوميّة عربية.

الطريقة التي تجلّى بها الإعلان، كشف عن واقعٍ لا يمكن السكوت عنه، ولا التغاضي عن وبائه الذي يُمرضنا ويضعنا في مجاهل الإنسان الجاهل ويُظهرنا بأبشع صورة للتخلّف والغياب الذهني والثقافيّ واللغويّ والفلسفيّ والإنتمائيّ والوجوديّ.

هل هذه هي الصورة التي أرادت "العربية" أن تظهر بها؟ وهل السرعة والسهولة في إيصال الخبر إلى المشاهد تستدعي أن تشوّه "العربية" مقام الصحيفة المكتوبة التي كانت ولا تزال مقاماً مقدّساً لحبّ الإطّلاع الذي يميّز المثقّف العربيّ؟

لقد شاهدت هذا الإعلان مرّتين، وفي المرّتين شعرت بالإشمئزاز من واقعٍ يسوّق صورة الجهل، بل ويكرّس الإنسان العربيّ على أنه جاهلٌ بامتياز. فشكراً لكلّ من ساهم في كتابة وإعداد وتصميم وإنتاج وبثّ هذا الإعلان المنحطّ الذي يكرّس المواطن العربيّ قزماً جاهلاً أمام ثقافة الإنسان وأمام رقيّه.

مثل هذا الشاب أصبحنا اليوم، ندوس على الكتب والمجلّات والصحف، لنفتح محطّات التلفزة ونتلقّى، بينما فكرنا يغوص في النوم، ما تعرضه علينا، دون أن يتبادر إلى ذهننا عمّا نرتشفه من نتاج تلك المحطّات التي تُطلق على نفسها تسميات عربيّة، بينما هي لا تعرف شيئاً عن أمّ الثقافات (العربيّة) ولا عن غد الهويّة الثقافية العربية التي تتلاشى وتضمحلّ وتذوب أمام ركب العولمة الغربية التي نحفظها عن ظهر قلب، ونتبنّاها، بل ونسوّق لها، بينما نحن لا نعرف شيئاً عن التجربة التي خاضها الغرب، ولا عن إنتاجاته الجبّارة في عالم التكنولوجيا المنتشرة في بيوتنا ومدارسنا وجامعاتنا ومقاهينا.

نحن هذه الجرّافة التي تغرف من الغرب من دون فكر انتقائّي لما يبنينا، ونحن مثل هذا الشاب على منعطف الطريق، ندوس بعجلاتنا على المثقّفين والمفكّرين والمبدعين الذين يشتغلون بالفكر والكتب والمنشورات والدراسات؛ نمرّ فوق أخضر العشب حيث يجلس قاريء الصحيفة في الإعلان وندوسه مع رجالاته عبر الأخذ عن الغربييّن وتقليدهم ببغائياً، متناسين هوّيتنا الثقافيّة التي، إذا ما طوّرناها لتواكب العصر، ستُعلينا حتماً لنتناغم مع الغرب في الفكر والعطاء والتقدّم، بدل أن نكون مستهلكين بامتياز لما ينتجه هذا الغرب، ونأخذه لنعرّبه على طريقتنا.

أعلم جيّداً بأنّ النيّة حسنة لدى قناة "العربية"، إنما الواقع العربيّ الآسن بات يصرخ بوجهنا ويدعونا لإعادة التفكير في هويّتنا الثقافيّة في ظلّ إعصار العولمة الذي لم نستعمل كفّه الأبيض الرائع الذي يقدّم للإنسان كافّة الوسائل ليحلّق بثقافة عَيْشه، بثقافة الحياة، ليُعلي الإنسان إلى أعلى مقامات الجمالات والإبداع، إنما أخذنا فقط منتجاته كي نتباهى بيننا بمن يحمل الهاتف الأحدث ومن يقتني البلازما الأجدد و و و و و و و .

إعلان "صباح العربيّة" جاء غاشماً بحقّ الهويّة الثقافيّة العربيّة، عسى من رحم هذا الغياب يشرق بالفعل "صباح العرب".

No comments: