أختصر قولاً بأني أستنكر الجريمة البشعة التي أسفرت عن مقتل جورج فلويد بأشنع الطرق وأكثرها وحشية، بحيث لفظ أنفاسه الأخيرة بينما كنا جميعاً نشاهد مقتله المصوّر بدقّة، عن قُرب وبحرفيّة لدرجة كدنا معها نظنّ بأنه فيلم احترافيّ، لولا أنّ العالم بأكمله بدأ بالتمرد والصراخ والإعتراض!
لكن ما يدهشني فعلاً، ويوجع كياني في العمق، ليس المشهد وحده فحسب، سيّما وأننا نشهد مثل هذه التجاوزات يومياً، في الولايات المتحدة وفي فلسطين المحتلة وفي الكثير من البلدان ذات الأنظمة التي تدعي الديمقراطية لكنها قمعية إلى أبعد حدود الظلم بحيث لا نعرف فعلاً كيف يخسر المتهم حياته..... كلّ هذا غير مقبول! لكن ما هو مرفوض كلياً، هو اليد الباردة التي كانت وراء نقل الصورة الحيّة للجريمة البشعة التي بكاها العالم أجمع، بينما لم يرتجف لحامل الكاميرا الهاتفية جفن ولم يرتعد له اصبع! بل أكمل تصويره الذي لا يقلّ برودةً ووحشيّة عن الجريمة التي، لو كان لحامل الهاتف التصويريّ ذرّة من الإنسانيّة، لكان حرّك اصبعه وأداره من زرّ تشغيل التصوير، إلى زرّ إيقاف مسار فعلٍ كان ليخلّص شخصين من الموت المحتّم: جورج فلويد الذي انتهت معركته مع الحياة من خلال موته الذي أعلنه خطّ الماء السائل الذي جرى بجانبه بينما انعمى على قلب جميع مَن كانوا حاضرين ليتيقّنوا بأنّ جسد القتيل قد فارق الحياة وارتخت عضلاته فأفرغت السائل المتواجد في مسالكه البوليّة التي لفظت ماءها إعلاناً عن استسلامها لوحشية القاتل!
لكن الموت الأبشع والذي سيعيشه القاتل الضحيّة، هو موتٌ أفظع للإنسان المقتول في قلب ديريك شوفين، والذي يحمل جثّته معه كيفما توجّه وأنّى ذهب ومهما فعل! الإنسان الفاقد لإنسانيّته يحمل بداخله جثّة الإنسان القتيل على يد الجهل والعنصرية والعرقيّة وكلّ واحدة من تلك الآفات، هي أبشع أنواع الإجرام وأكثرها عذاباً. فالقاتل يواجه يوميّاً مختلف أنواع الموت العديدة كلّ باقي عمره! القتيل يموت مرة واحدة، أما القاتل فيُغتال كلّ يوم من إجرامه الذي هو عبارة عن قنابل موقوتة من قلّة المحبّة وانعدامها! حتى محامي الدفاع سيقف وراءه غير قادرٍ على التعاطف معه لتخفيف أسباب العقاب الذي لا يمكن لبشاعته، إلا أن تُطَبق فيه العدالة الأميركية قانون الغاب ودستور الحياة مقابل الحياة!
لو قُدّر لهذين القتيلين أن تمتدّ يد المصوِّر لتخليص حياة القاتل والقتيل، لكان العالم بأسره شهد على العدالة الإجتماعية: العنصر الإنساني المفقود من العالم أجمع! من هنا نستشفّ بأننا جميعاً نختنق. المواطن العالمي يختنق كما الحكومات؛ لا لغياب الأنظمة والقوانين والدساتير ، إنما لكميّة اللامبالاة القاتلة التي وصلت البشرية لها! العالم بأسره يختنق بالإنسان والحيوان والنبات بسبب استفحال اللامبالاة وتحكّمها في رقابنا جميعاً! كانت لتتغيّر النتيجة لصالح الحياة والرحمة لو أنّ المصوِّر قرّر ترك الكاميرا والإقتراب من ديريك لمدّه بجرعة من الحقيقة وإيقاظه من منحى جريمته وحتميّة مواجهتها للموت، إلى منع حصول هذا الفعل! ماذا كان خسر المصوّر القاتل، لو ترك جريمة لامبالاته، ليلاقي للحياة مكاناً يتّسع لجورج ولديريك؟ شاء القدر أن يتواجد ثلاثة مجرمين في مكان واحد وبقعة من المساحة لم تتعدّى المتر، لكنها اتّسعت لثلاثة قتلة: جورج، ديريك والمصوّر.
أما الشرطي تاو، الذي كان شاهداً على الظلم والقتل وتوسّلات أحد المشاهدين بأن القتيل يصرخ طلباً للاوكسيجين، فهو يمثّل كلَّ واحدٍ منّا، نحن الذين نتفرّج على القاتل والقتيل دون أن نحرّك ساكن أو يتحرّك الحق والعدالة بداخلنا للإعتراض، للتدخل والحؤول دون حصول مزيد من الإجرام، مهما كانت درجة هذا الإجرام أو مكان حصوله، فالعالم بأسره قد فقد صوابه.....
قالها أينشتاين كعبرة للبشرية جمعاء: الشرّ الحقيقي فيمن يقفون متفرّجين لا يتدّخلون!
ربيعة طوق
No comments:
Post a Comment