أكتب للشرق الغارق في فوضى الفتاوى للتفسيرات غير الدينيّة باسم الله النائم على غمام أفيون الطوائف، وأكتب للغرب العائم على بساط الريح المغيّب على شبكات التواصل بين المصارف الدولية وحسابات شركات تصنيع الأدوية والأمراض والأعراض المُستحدثة وكواليس الحكومات غير المرئيّة التي تُسيِّر أنهار الجليد في القطبين وتقسم الشعوب إلى قُطبين.
أكتب باسم الإنسان الذي دخل متحف التاريخ لانقراض جنسه الذي لم يبقى منه سوى مخلوق يُسمّى بشر، وهو تزاوج بين الضجر والحجر. فبين الإنسان كقيمة إلهية ثقافية جمالية حضارية فكرية، وبين البشر الذي ينهض كل يوم بعد شرب إبريق من الكافيين وساعات وراء شاشة العمل وأمسيات من التضرع والخوف وعمرٌ من اللغات التي لا تتيح التعبير ولا الفهم؛ ها نحن اليوم على عتبات البارود لا زلنا أضعف من صرصورٍ يعرف جيداً كيف يعيش حياته سعيداً وبعيداً عن عالمنا.
اللحظة هذه بالذات، أكتب لك يا من لا يحقّ لي أن ألفظ اسمك الآن، لأني لم أنادِك به قبل تغييبك! لن أسامحم لأنهم قتلوك مرّتين وأردوني معك مرّتين: مرّةً على قيد الحياة ومرّةً على قيد الخجل لأننا لم نتعارف على امتداد هذا الوطن الضيّق الصغير، المخنوق بالعمامات السود التي تفوح منها رائحة الحمّامات، والتي فاقت الفئران وساخةً بنبشها وحفرها للأنفاق التحتيّة، حيث بنت لها مستوطنة لها تحت أقدامنا، وها هي أوكارهم على موطىء أقدامنا تتهاوى وتنفجر بك وبي يا لقمان!
لقمان نحن غرباء داخل بيوتنا وعلى أرصفة شوارعنا وفي مكتباتنا وحدائقنا العامة التي تغيب عن كامل مساحة هذا ال ”لبنان“ الذي لا يعرفك مثلما أنه لا يعرفني! نحن يا لقمان الذين ظننّا بأننا جائعون إلى وطن، نكتشف اليوم، باغتيالك، بأن الوطن نفسه جائعٌ إلى هامات الرجال لأنه لا أثر للرجالات منذ وقت في ربوع لبنان! لبنان هو من اغتالك في قلبي قبل أن يصفّي جسدك الطاهر لِتنبتَ عند هذا الصباح نهراً في دمي سيجري في عروقي وسيحفّزني لأبني لك مقاماً مقدّساً كقدسيّة رغبتك بجعل لبنان وطناً صالحاً للإنتماء، ففي هذا الوطن الصغير، المتشابك بين الأخطبوط الفارسيّ الذي يبحث أبضاً عن نوعٍ آخر من الإمتداد في الإتجاهين، عبر الإنتماء الدمويّ، قد وقع في مصيدةِ فأرٍ متنكِّرٍ بعباءة دينيّة لا تمتّ للإسلام أو لأيّ دينٍ سماويّ نعرفه بصلة، وتحارب السلام باسم الله وباسم البُعْبُعْ الصهيونيّ على مساحةِ وطنٍ صغيرٍ هشٍ لا يتّسع سوى للحب.
لقمان قد قتلوكَ قبل اليوم وقتلوني معك في دكاكين الشاشات اللبنانية التي تبيع لحمنا حلال، ليليّاً عبر برامج الإعلاميين الحوارية التي لا تفقه شيئاً عن آداب التواصل ولا جماليات الحوار والتخاطب بين الضيوف في الأستوديو والضيوف في دكاكين هذا الوطن الكثيرة. لكلّ حزبٍ دكّان ومحطة بثٍّ تبخّ سمّ سياستها الطوائفيّة الضيّقة التي لا صلة لها بالدين لأن الله براء من هذه الطوائف الحزبيّة الشيطانية التي تدّعي الرعاية والبحث الصجافيّ المناقبيّ، وتلبس رداء الفُحش في جلد الصحافيات اللواتي يُطْبَخْنَ في عيادات التجميل البوتوكسيّ والتفريغ الفكريّ. هذه الدكاكين فُتحت على نهج المدارس التي تعلّم الإصطفاف المذهبيّ وتدرّس التفرقة وتحاضر في القتل وتحبك الدسائس وترسم المكائد وتتبارى فيما بينها عمّن يخرّج أعداداً أكبر من الممسوحين فكرياً وثقافياً واجتماعياً ووطنياً.
أكثر ما أوجعني يا لقمان ليس رصاص التهديد، ولا الرصاصة الأولى التي أسكَتَت نبضك، إنما هي الرصاصة الخامسة، كأنهم خافوا منك حتى بعد موتك فأرادوا قتل ذُعرهم من أسلحة كلامك وذخيرة فكرك النوويّة! ألم تكن تكفي رصاصة واحدة؟ بلي. رصاصة واحدة كافية لقتل ديناصور، فكيف لم تكن رصاصة واحدة كافية لقتلك يا لقمان؟ لقد شهدت أعداد الرصاصات عن هول ذُعرهم من قامتك التي هالهم حجم نورها يسلّط الضوء على مجاريهم النتنة، حاولوا أن يجعلوك تموت خمس مرّات، لكن قد فاتهم أنهم برصاصاتهم الخمس قد أعطوك خمسين مرّة أضعاف حجمك قوّةً ستزلزل مخابئهم التي يزحفون فيها كالقوارض في عتمة المياه الآسنة التي يسكرون بها منذ أربعين عام.
أردَتْكَ الرصاصة الأولى مرّةً، أما أنا فقد تمّ اغتيالي وجاهةً في حضرة موتك خمس مرّات متتالية. ظننتٌ أنَّ الموت لا يؤلم! لكنّي متُّ معك خمس مرّات كلّ مرّة أوجعتني أكثر من الأولى، فرصاص الإرهاب يُطبق على جثّة الوطن الذي هَتَرََتْهُ خفافيش الظلام مدّعيةً سِتْرَ أمّةٍ لم تستطع سوى إنجاب مسوخٍ خرساء صمّاء تمشي وراء قائدٍ يستمدّ قوته من تنويم الحاشية بالذخيرة الحيّة؛ فرائحة الدماء مغرية لصنف الوحوش من البشر. وبينما يختبىء في مياه الصرف الصحيّ لأصغر مواطن لبنانيّ، فقد اعتاد ظلامه وكفره ونسي أنّ فوق الأرض والمخابيء، هناك أطفال يشعرون بخربشات حوافره تحت بيوتهم، ومن حرصهم على أرضيّة بيت ثابت يجمع العائلة بأكملها بشكل آمن، ستعلو أيادي هؤلاء الأطفال، اللذين يشاهدون الذعر والجوع والسأم في عيون آبائهم وأمهاتهم، وسينتفضون على هذا الذلّ، لأنّ صوتك قد تناهى إلى محابرهم، وسيكتبون بدورهم عن إيمانهم بأحقيّة هذا الوطن الرسالة، الذي منه نشأت النبوة والمرؤة، ولن يقوموا بتسليمه لعلامات الظلام والإرهاب، فمن جثّتك يا لقمان ستنهض مَرَدة السلام التي ستذوّب اللحى البشعة بجبروت نورها.
لا تنم قرير العين إلى حين نرفعكَ في شوارع الوطن ذخيرة حريّة وترنيمة صلاة ونشيد شكر للداعية إلى الحق الذي أنت عليه.
سليمٌ يا لقمان أنت سليم لهذا خافوك، وسقيمٌ مَن أعطى الأمر بتصفيتك فهؤلاء ليسوا من صنف الإنسان، إنما على هيئته فقط.
لقمان سيختنقون بموتك أكثر ممّا خنقتَهم بحياتك. انتظرنا قليلاً من الوقت، كي تمشي في عروقنا نبضات الوطن التي عزفها قلبك، فننتفض من ركامنا، نُعليك ونُعلي الوطن سيفاً يفقأ عيونهم فيكون فجرٌ جديد.
ربيعة طوق
No comments:
Post a Comment