النداء اليوم للشعب اللبناني، أو على الأصحّ، المجموعات اللبنانية المتناحرة، غير القابلة للتعلّم وللتطوّر الوطنيّ! أنا أريد الحياة. أنا أختار الحياة! أنا وبيروت وأهلها والوطن بأكمله ضحية! نحن لم نطلب الشهادة: نحن ضحايا الجهل والمحاصصة والعمالة وعبادة المناصب!
كلّ طفلٍ قضى هو ابني وابنتي! كلّ أخٍ رحل هو أخي أنا! كلّ أمٍّ تبكي هي أمي أنا! كلّ قلبٍ تمزّق، كان قلبي أنا! وأنا لم أكمل بعدُ ثمن منزلي الذي تطاير، ولا ثمن غرفة النوم التي أسدّد ثمنها بالتقسيط كمثل أحلامي، ككلّ أهلي وإخوتي في هذا الوطن، حيث الموت يخترع أسباباً جديدة كلّ يوم! لم يختَر أيٌّ من الضحايا الرحيل، لكنهم رحلوا وأخذوا معهم قضمةً من قلبي وسماءً من روحي. لم يقم أيٌّ من الضحايا بتوديع أحبّته، بتناول وجبة طعامه المفضّلة، بطبع قبلة على خدّ الطفل الذي احتفلوا بولادته منذ أيام قليلة بعد سنوات من التضرعات، بالتوقف لبرهة أمام المرآة للتشبّث بهدفٍ رسموه منذ وقتٍ بين أضلعهم! لم يشعر أيّ من الضحايا الأبرياء أو يعرفوا أنّ الساعة السادسة وسبع دقائق من الرابع من آب اللعين، ستكون آخر شعلة حياة في أجسادهم التي كانت تسارع الزمن وتصارع اللعنات في وطنٍ قاتل محترف، يقتات على دماء أبنائه من الأبرياء!
كلّ شباكٍ تطايرت شظاياه لتحطّ على جلدي، هي شبابيك فُتحت لتدخل الحياة إلى البيوت ومزهرياتها، لا ليدخل الموت بشعاً كلعنة أو كقصاص! لا للموت بعد اليوم! إن قبل ٤ أيار لا يمكن أن يكون مثل بعد الرابع منه. قبل هذا التاريخ كنتُ حيّة ببساطة، وأتنفس أملاً بأن لهذا البلد شمس ساطعة بالأمان، وها أتى الإنفجار وانهار الوطن والأمل، وانهارت فينا الدار وتحوّل فينا النهار، صرنا لهباً ونار!
هذا الإنفجار لا يزال يفور في صدري كالبركان على امتداد الليل والكوابيس. بيروت طعمها قمحاً معجوناً بدماء أحبّتي يحترقون لا زالوا في فمي! ها هم في أكواب المياه والنوافذ التي لم تعد تطلّ على المتوسط، إنما على أكداس التزمّت والفساد العفن الذي قذف بأجساد إخوتي مساميراً صلبتني على عودِ وطنٍ محترق، كمثل هويّتي التي تطاير ورقها الزهريّ وتناثرت فوق بيروت صارخةً باسمي بأعلى صوت: أريد أن أعيش. أريد أن أحيا.
منذ أن كنتُ طفلة وأنا أسمع عبارات تدور في فلك "لن ندع موتك يمرّ دون عقاب للقاتل" أو "دم الضحايا لن يذهب هدراً" أو "وعدنا لك أننا لن ننساك للأبد".... ومشى بي العمر، وطالت لائحة الشهداء والضحايا والمغدورين الذين ماتوا مرتين: مرّة حين تمزّقت أجسادهم بالرصاص والبارود والشظايا، ومرّة حين تاجر بهم رئيس الحزب؛ وكم من رئيس حزب، وكم من ضحايا، وكم من ثكالى لا يعرفون أيبكون أخاً أو أباً أو زوجاً أو حبيبا أو عائلة وبيت وعمر من الأحلام والأماني المبتورة! وطالت لائحة الموتى طالت لدرجة فاقت معها مساحة الوطن الذي ضاق بالأجساد المضرجة بالدماء.
إنّ خارطة الأجساد البرئية التي ماتت منذ تأسيس لبنان الطائفي التحاصصي حتى اليوم، إذا ما مدّدناها الجسد بجانب الجسد، لكانت مساحة الوطن أكبر من ١٠٤٥٢ كلم. وكبرت طالت مع لائحة أموتانا الخيانات والمبايعات والمزايدات بيعاً وشراءً بدم الضحايا والشهداء! وازدادت أسواق المزادات العلنية التي تاجرت ولا تزال بدم الأبرياء، خصوصاً في الجوامع والكنائس، وتحوّلت التعاليم الدينية إلى دروس ونُهُج في القتل والجرائم الدينية المنظّمة التي تتلطّى بالعباءات الدينيّة، محوِّرةً النصوص السماوية والنفوس البشرية إلى قنابلة موقوتة لا يرويها سوى قتل الأبرياء العُزَّل.
وللتنويع والمزيد من التشويق الذبائحيّ، لدى كلّ عمامة أكثر من حزب، وأكثر من أداة قتل، والكثير الكثير من الحجج والمقارعات لآلاف مناهج النهب والقتل والتدمير وتشويه الإنسان. وكلّ هذا يتمّ باسم الله، باسم الشعب، باسم المواطن، باسم الأطفال، ودائماً باسم الفريق الثاني (التانيين اللي ما خلّونا)
ربيعة طوق
No comments:
Post a Comment